لا شك أن كل من قرأ المشهد السياسي في السنغال قبل عدة أشهر من الآن ، كان يتوقع أن يضمن الرئيسي الحالي مكي صال فوزا مريحا في الانتخابات الرئاسية القادمة في 24 فبراير من العام الجاري ، والسبب في ذلك أنه أخذ يضيق الخناق على خصومه فور وصوله إلى سدة الحكم ، وقد استطاع أن يتخلص من كافة المرشحين المحتملين لمنافسته في هذه الرئاسيات.
فبعد شهور من ادائه اليمين الدستوري رئيسا على الجمهورية عام 2012 م أبدى الرئيس الجديد حرصا شديدا على ترسيخ قدمه في مقاليد الحكم ، فعمل على إقصاء أقوى المعارضين المحتملين له ، حيث تم إيقاف أقوى خصومه آنذاك كريم واد وإيداعه السجن بتهمة الإثراء غير المشروع ، وبعد أن استتب له الامر سعى إلى التخلص من معارضه الآخر أبي بكر خليفة صال الذي شق عصا الطاعة في حزبه الاشتراكي المتحالف مع مكي صال ، وأبدى رغبته في الترشح للرئاسيات عام 2019 م متجاهلا أوامر زعيم الحزب السيد عثمان تنور جنغ الذي أراد البقاء في التحالف الحاكم لمساندة مكي ، وقد قاد خليفة صال تحالفا قويا في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 30 يونيو, 2017 ، حيث فاز بعدد من المقاعد في البرلمان ، إلا أن حصانته البرلمانية لم تسعفه من إيداعه السجن ، فسجن في 7 مارس/آذار 2018، بتهمة اختلاس أموال عامة وحكم عليه بغرامة مالية مقدراها ، ومنعه من الترشح في الانتخابات القادمة
ولضمان فوز مريح في الجولة الأولى من الانتخابات ، لم يكتف الحزب الحاكم بكل هذه الاجراءات الصارمة في وجه خصومه، بل عمل على إصدار قانون "التزكية السياسية" الذي صوّتت الأغلبية الساحقة من أعضاء حزبه وتحالفه Benno bokk yaakaar بالموافقة عليه في البرلمان وبموجب هذا القانون استطاع أنصار مكي أن يغلقوا أبواب الترشح أمام عدد كبير من المنافسين الذين كانوا ، رغم تفاوتهم في حجم القوة والتمثيل ، يشكلون خطرا محدقا بهم ، مما قد يعكر عليهم صفو أجواء الاحتفال بالنصر والفوز منذ الجولة الأولى. "
احتمال الفوز في الجولة الاولى؟
وبعد كل هذه الاحتياطات والإجراءات القانونية في وجه الخصوم، وبعد أن تمت غربلة كثير من المرشحين بموجب قاتون التزكية ، خلا الجو للرئيس المنتهية ولايته لكي يبيض ويصفرّ، وبدا للمحليين السياسيين وقتذاك أن الأمر قد حسم نهائيا لصالح مرشح الحزب الحاكم كما أراد أنصاره ، وعلاوة على ذلك فإن الرئيس المنتهية ولايته استطاع أن يحقق كثيرا من الإنجازات ، ودشّن الكثير من المشاريع العملاقة ، فقد أكمل معظم المشاريع التي بدأها سلفه عبد الله واد مثل بناء المطار الجديد في "جاس" ، ومشروع إنشاء المدينة الجديدة في جامنياجو ، كما أنشا بنفسه مشاريع إنشائية عملاقية في أنحاء مختلفة من البلاد مثل الطريق السريع إلى طوبى والجسر الكبير الذي يربط بين السنغال وغامبيا ، ومشروع القطار السريع من دكار الى جامنياجو ، الخ وغير ذلك من المشاريع الكبيرة.
ولا شك أن هذا كله يدخل في سجل الانجازات التي يمكن أن يفتخر بها مكي صال أمام معارضيه ، وقد قوّي بما لا مجال للشك فيه حظوظه في الفوز بولاية ثانية، بيد أن ذلك قد ينقلب عليه في عين بعض معارضيه، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار وجهة نظر الناقمين عليه الذين ينتقدون عليه المحسوبية وانعدام الشفافية في عقد الصفقات ، كما يأخذون عليه إيثار أو تفضيل الشركات لأجنبية على حساب الشركات الوطنية ، حيث تم حرمان الشركات السنغالية من أخذ نصيبها العادل في الكعكة ، ولهذا السبب لم يستفيد الناخبون المحليون من فوائد هذه المشاريع العملاقة، ولم يؤثر ذلك في جعل النمو الاقتصادي ملموسا لدى المواطنين الفقراء من دافعي الضرائب .
عنصر المفاجأة:
ومن هذه الزواية فإن تحقيق هذه الانجازات والمشاريع فقد يشفع للرئيس مكي صال في تسهيل مروره في الانتخابات، إذا جرى كل شيء حسب تقديراته وحساباته السياسية ، ولكن الرياح قد تجري بما لا تشتهي السفن ، وقد ينقلب السحر على الساحر ويحدث ما لم يكن في الحسبان، كما حدث سابقا حين ظهر فجأة عثمان سونكو وهو يعد رجلا من اقصى المدينة ومن خارج المنظومة السياسية الهرمة وقد سوّق نفسه كالمرشح المنقذ الذي يأتي بالفردوس الموعود إلى السنغاليين ، أو"كالمهدي المنتظر" الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئ جورا .
وقد استطاع عثمان سونكو أن يعيد الأمل إلى شريحة كبيرة من الناخبين الشباب والطبقة المثقفة، وقد أعطى القوة والزخم في اللعبة السياسية . وقلّب الطاولة على اللاعبين في الحزب الحاكم الذين كانوا يأملون في إخلاء الساحة من كافة الخصوم المحتملين ، وقد فاجئهم صعود نجمه وشعبيته السياسية بوتيرة فاقت كل التوقعات ، خاصة بعد طرده من الخدمة في مصلحة إدارة الضرائب بتهمة إفشاء أسرار المهنة . ومنذ ذلك الحين ما زال نجم الشاب الجنوبي يلمع في سماء المشهد السياسي السنغالي ، وقد جعل من التنديد بالفساد والمطالبة بالشفافية في المال العام حصان طروادة للتشهير بالحكومة والنيل من خصومه وإضعافهم والتقليل من جميع فرصهم لنيل ولاية ثانية.
تحالفات مفاجئة:
وإلى جانب هذه القوة الجديدة التي أحدثت قوة وزخما في المشهد السياسي السنغالي، لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار لعبة التحالفات والتكتلات السياسية الكبيرة في هذه الأجواء الانتخابية، فقد استطاع مكي صال تشتيت خصومه ومنعهم من التظاهرة في الميدايين العامة في العاصمة ، وضيق عليهم دائرة اللعبة والمناورة ، فشدّد عليهم الخناق حتى لم يعدوا يقدرون على تعبئة الجماهير وإنزالهم إلى الشوارع كما كان يحدث في زمن عبد الله واد. غير أنه وبعد أن تم غربلة عدد كبير من المرشحين وإقصاءهم من دائرة اللعبة السياسية في الرئاسيات القادمة، وجدوا أنفسهم مضطرين للاصطفاف وراء المرشح المخضرم ادريس سك الذي كان قبل ذلك يعاني من تردي كبير في شعبيته.
والآن وبعد أن انضم أغلب المرشحين الخاسرين في امتحانات التزكية إلى التحالف البرتقالي للسيد إدريس سك ، فقد أحدث ذلك بلبلة في موازين القوى، الأمر الذي أجبر جميع المحللين لا محالة على إعادة قراءة المعطيات في المشهد السياسي، وإعادة ترتيب الأوراق في هذه الانتخابات من جديد على ضوء هذه التحالفات الجديدة .
معطيات جديدة في المشهد :
فلا شك ان من كان حتى بالأمس القريب وقبل حدوث هذه المعطيات الجديدة يتفاءل أو يجزم بإعادة انتخاب مكي صال من الجولة الأولى لا بد أن يراجع حساباته ويعيد القراءة في الخارطة السياسية من جديد. وقد استوقفني في هذه المحاولة الجديدة لقراءة المشهد السياسي في السنغال بروز عدة معطيات لا بد أن نضعها بعين الاعتبار :
·المعطى الاول : زيادة نسبة كبيرة من المسجلين الجدد في السجلات الانتخابية، وهم في أغلبهم من شريحة الشباب تحت سن ، ولا شك أن هذا العامل يشكل عامل مفاجأة كبيرة في الحسم لصالح هذا أو ذاك من المرشحين، ولا يخفى أن هذه الشريحة من الشباب المتحمسين تميل دوما إلى التصويت لإحداث التغيير في المجتمع .
·المعطى الثاني : تقلص نسبة العدد المصوت لصالح مكي صال منذ فوزه الساحق في رئاسيات 2012 م ، فقد لاحظنا يلاحظ أن الأصوات المؤيدة للمرشح المنتهية ولايته بدأت في التقلص والانحسار أكثر فأكثر بعد تلك الانتخابات ، حيث نرى أنه مع مع كل الانتخاب يخوضها التحالف الحاكم، نشهد مزيدا من التقلص والانكماش في نسبة الأصوات المناصرة لحزبه. ففي الرئاسيات عام 2012 استطاع حزب APR مع تكتل الاحزاب المتحالفة معه أن يفوز بنسبة 65 % من أصوات الناخبين، إلا أنه في النيابية التالية لاحظنا انخفاضا واضحا في نسبة الأصوات التي حشدها في تلك الانتخابات ، فقد سجل نسبة اقل من 50 % ، وفقد حوالي السدس من مجموع الأصوات التي جمعها في الانتخابات السابقة، لا بل استطاعت المعارضة مجتمعة أن تحشد عددا من الاصوات اكثر من أصوات المولاة .
·المعطى الثالث : ارتفاع نسبة الناخبين في الحواضر والمدن ذات الازدحام السكاني الكبير ، فمن المعلوم أن عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بلغ 6700000 ، وتتمركز غالبية هذه الأصوات بمعدل 60 % في هذه التجمعات السكانية العالية، بينما تتوزع 40 % من الأصوات الباقية على الريف والمدن الداخلية في العمق السنغالي .
وحتى نقرّب الفكرة إلى ذهنك بشكل أوضح خذا مثلا التجمعات السكانية الثلاثة الكبرى في دكار وتيس وطوبى، فهي وحدها تشكل نصف أصوات الناخبين في السنغال، فمثلا تبلغ إجمالي الأصوات في دكار 1700000 صوتا ، وفي مقاطعة تيس يبلغ إجمالي الناخبين فيها 900000 صوتا، وأما طوبى إذا أضيف إلى عمقها الجغرافي في جربل : فيبلغ عدد الناخبين فيها حوالى 600000 صوتا . وجدير بالذكر أن أصوات الناخبين في مدينة طوبى فقط، وهي حوالي 000 364 تشاوي أو تزيد على عدد الناخبين في مقاطعة كاملة وذات كثافة سكانية في حجم مقاطعة كولخ ، فضلا عن الأقاليم التي تقل فيها عدد السكان مثل تامبا وماتام وسيجو، وكفرين ووو الخ.
فهذا يشير إلى حجم القوة الانتخابية التي تتمتع بها هذه الحواضر وبالأخص طوبى التي فضلا عن قوتها الديموغرافية تتمتع بقوة ونفوذ روحي تتجاوز حدودها الجغرافية والمكانية. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى أن يعي الناخبون في طوبى حجم القوة والنفوذ الذي يتمتعون بها للتأثير في نتائج الانتخابات رئاسية كانت أو برلمانية ، فلو فهم المريدون ذلك لسجلوا أنفسهم إلا جلهم في سجل المدينة
ومعروف أن هذه المدن الكثيرة ذات الكثافة السكانية الكبيرة تصنف في الغالب ضمن الخريطة المعارضة في المشهد السياسي ، كما يصنف عادة الريف والمدن الداخلية ضمن الأصوات الموالية لمكي صال. ويمكن أن تصنّف مدنا كبرة بحجم كولخ وتيواوون ومبور في إقليم تياس ضمن خريطة الموالاة ، ولكن إذا قورنت أصواتها بالأصوات في اقليم جيغبنسور وكاسمانص الجنوبي فستتقاربان . وهذا الإقليم الجنوبي مرشح جدا أن يسقط في يد ابن الإقليم عثمان سونكو .
احتمال عقد جولة ثانية
فإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه المعطيات الجديدة مثل : ازدياد نسبة المسجلين الجدد في اللوائح ، وارتفاع نسبة الناخبين في الحواضر والمدن ذات الازدحام السكاني الكبير إلى جانب المفاجآت في المرشحين والتكتلات السياسية الجديدة ، وأيضا تقلص نسبة الأصوات المناصرة لصالح مكي صال، وبعد أن نأخذ في الحسبان كل هذه المتغيرات والمعطيات في المشهد السنغالي الحالي ، فإننا نرى في الآفاق احتمال عقد جولة ثانية من الانتخابات للحسم بين أقوى المرشحين الثلاثة السابقين ، ولا شك أن فرص مكي صال أقوى من حظوظ بقية المرشحين ، إلا إن ذلك لا يمنع احتمال أن يخرج إدريس سك أو عثمان سونكو للتنافس معه في الجولة الثانية .
فأما إدريس سك فإن له حظوظا قوية جدا في خوض غمار الجولة الثانية ، فهو سياسي مخضرم، وهو يتمتع بخبرات متراكمة في رئاسة الحكومة، وله سنوات من الخبرة أيضا في المعارضة ، ويوجد وراءه تكتل واسع من المرشحين المبعدين في امتحانات التزكية ؛ كما أن له قطاعا عريضا من جماهير الطريقة المريدية، ولكن في المقابل عليه أن يذلل الصعاب في كسب ود شريحة كبيرة من الناخبين في الطريقة التجانية .
وأما المرشح الثاني عثمان سونكو فيعتبر عنصر المفاجأة في هذه الرئاسيات، وقد صنف نفسه خارج إطار المنظومة السياسية ، فبالنسبة لكثير من الشباب يمثل هذا المرشح الأمل والمستقبل والقطيعة مع جيل هرم عجز عن تطوير البلد وتقديم البدائل وقيادة الأمة إلى شاطئ الازدهار والتقدم، فهو يتمتع بكثير من الايجابيات ونقاط القوة ؛ إلا أن حداثة السن وقلة التجربة السياسية، واتهام خصومه له بالانتماء إلى التيار السلفي قد يغلق في وجهه كثيرا من الأبواب مما يقلل من فرصه امام إدريس ، فعليه إذن أن يعمل بجد لتبديد كثير من الشكوك والشبهات التي استغلها الخصوم إلى أبعد الحدود لصقه بها ، حتى يقنع كثيرا من الشرائح الاجتماعية والدينية .
ومهما يك من شيء ، فقد تحدث المفاجآت فيخرج أحد منهما في الجولة الأولى ، ويكتسح عددا كبيرا من الأصوات يؤهله لخوض المنافسة ضد مكي صال ، وحينئذ فلا بد أن يكون الضغط قويا على الرئيس المنتهية ولايته ، وقد تحدث مفاجأة كبيرة للسنغاليين كما حدث 2012 م مع عبد الله واد . ويبقى الكلمة الاولى والأخيرة في هذا كله للشعب السنغالي وراء الصناديق .
بقلم الباحث أبي مدين شعيب كيبي
طوبى المحروسة بتاريخ 11 فبراير 2019