كانت الأهواء والتجاذبات تجتاح الإقليم الموريتاني في فترة ما قبل نشوء الدولة وأثناء نشوئها، كما أسلفنا. بيد أنها احتدت واحتدمت بشدة أثناء مؤتمر الوحدة الوطنية الذي انصهرت فيه جميع الأحزاب في حزب واحد هو حزب الشعب الموريتاني سنة 1961، حيث أخذت شكلا داخليا ثقافيا عرقيا تمثل في إلحاح "البيظان" على ترسيم اللغة العربية، لغتهم، ولغة الدين الإسلامي (دين جميع الموريتانيين) ومطالبة مثقفي "لكور" في مقابل ذلك بضمانات دستورية تحميهم من الذوبان. وقد قرر المؤتمر، حرصا منه على عدم تعكير جو الوحدة السياسية المسترجعة، تأجيل حسم المسألة إلى المؤتمر العادي الأول للحزب المقرر عقده في شهر مايو سنة 1962 وذلك إلى جانب مسألة أخرى لا تقل سخونة وأهمية، هي القضاء على السُّلَط التقليدية لصالح تمكين وتوطيد سلطة الدولة.
ولم ينعقد المؤتمر في الأجل المحدد له؛ بل تأجل إلى 25 مارس 1963. وذلك بسبب عدم اتفاق اللجنة المكلفة من قبل قيادة الحزب الوليد بدراسة المسألة وتقديم حلول لها. وقد مثل مؤتمر 1963 تطورا نوعيا في الصراع؛ حيث ظهرت الحركات القومية وتضاربت الآراء، واحتدم الجدل والتنافس بين النخبة حول التعريب والهوية وشكل الدولة والوحدة الوطنية. وحول المصالح أيضا. ذلك أن "تأخر التمدرس باللغة الفرنسية في موريتانيا الناطقة بالحسانية (بسبب مقاطعتها الشديدة للاستعمار) مقارنة بمنطقة النهر خلال العهد الاستعماري - كما يقول الرئيس المختار ولد داداه (رحمه الله) في ص 294 من كتابه موريتانيا على درب التحديات- جعل الإدارة الفرنسية مجبرة على اكتتاب معظم موظفيها ووكلائها المحليين من الجنوب الموريتاني الذي لم يكن – مع ذلك- يوفر لها كل حاجياتها. ولذا كانت تكمل اكتتابها من السنغال والسودان (مالي) والداهومي.. وغيرها. وكانت النتيجة إبان الاستقلال أن معظم الوكلاء الموريتانيين في الإدارة ينحدرون من جنوب البلاد؛ بينما ارتفعت نسبة تمدرس الناطقين بالحسانية بشكل ملحوظ بعد ذلك، وأصبحوا ينافسون مواطنيهم من أهل الجنوب في الإدارة التي تمثل وقتها أهم سوق للعمل في البلاد. ومن هنا كانت مخاوف هؤلاء من أن يفقدوا في النهاية مصدر رزقهم المتمثل في مناصب الوظيفة العمومية. وبغض النظر عن مردود تلك الوظائف المالي فقد كانت - وما تزال- تمنح أصحابها منزلة اجتماعية مرموقة، وتمثل قنطرة للعمل السياسي.
وكان لهذه المخاوف ما يسوغها إلى حد ما؛ خاصة وأن موريتانيا المستقلة كان عليها بالضرورة إعادة الاعتبار لتراثها الثقافي بإحياء موروثها الثقافي العربي الإسلامي الذي عانى كثيرا من وطأة الاستعمار كما عانى موروثها الإفريقي الصرف الذي يتعين إحياؤه كذلك.
وبما أن اللغة العربية - التي هي أداة هذا الموروث الثقافي العربي الإسلامي- قد أهملت القوى الاستعمارية تدريسها تدريجيا في المدارس حتى أصبح تعلمها اختياريا في عهد القانون الإطاري بعد أن كان إجباريا إلى جانب الفرنسية. فقد كان على سلطات الاستقلال أن تستأنف تدريس اللغة العربية وتُطوّرَه وتعمّمَه".
وقد أوصى مؤتمر ألاك، الذي وضع أسس الدولة الموريتانية، بـ"العمل على تحسين نوعية تعليم اللغة العربية وتعميمه والوصول به إلى مستوى التعليم الفرنسي..." في سبيل تحقيق ذلك الهدف. الأمر الذي غاظ، من بين أمور أخرى، واليَ موريتانيا الفرنسي "موراك" الذي رأى في قرارات مؤتمرألاك "بذور قومية عربية خطيرة على مستقبل نفوذ فرنسا في موريتانيا وباقي مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية..." وجعله يفقد صوابه فيتجاوز حدود اللباقة مع نائبه الموريتاني الْمُسَوَّم لتولي قيادة الإقليم فيوبخه ويبخس له السعي إلى الاستقلال عن فرنسا ويناصبه العداء الدفين حتى نهاية خدمته في موريتانيا. (المختار ولد داداه ص168).
إلا أن عمل المفتش الأفغاني ذي الغليون الكبير الأستاذ عكاري، الذي انتدبته سلطات الاستقلال الداخلي للإشراف على تدريس اللغة العربية في موريتانيا، أدى في زمن قياسي إلى انتشار التعليم العربي العصري واللغة العربية الحية في جميع أنحاء البلاد كما النار في الهشيم، تسنده في ذلك جهود ثلة من الأولين أمثال المختار ولد حامد ومحمدّو ولد عبدِ الله وأحمدُّ ولد احبيب والشيباني ولد محمد ولد أحمد ومحمذن الشفيع ولد المحبوبي ومحمد الأمين ولد السميدع وعبد الرحمن النقلي (رحمهم الله) ومنارات شاهقة رسمية وأهلية مثل إذاعة موريتانيا بصحفييها اللامعين كخي باب شياخ وأحمدو ولد احميد (رحمهما الله) ومحمد محمود ولد ودادي (حفظه الله) ودحَنَّ حمود (رحمه الله) وجريدة موريتانيا الجديدة ورائدها العبقري عبد الوهاب ولد الشيگر ومحررها اللامع محمدٌ ولد حامدن (رحمهما الله) ومعهد الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا (رحمه الله) في أبي تلميت وكوكبة شيوخه الأجلاء: الشيخ محمد عالي ولد عدود وابنه الشيخ محمد يحي والشيخ محمد ولد أبي مدين والأستاذ البشير لعريبي (رحمهم الله) ومدارس الفلاح وابن عامر وشيخيهما الجليلين الحاج محمود به ومحمد الأمين الشيخ (رحمهما الله) ونقابة وجموع المعلمين العرب وجريدتها "الواقع" بقيادة نقيبها عبدو ولد أحمد (رحمه الله). ذلك أنه لم تكن توجد قبل هذا المجهود الجبار في السنوات الأولى من عمر الدولة الموريتانية لغة عربية ولا ثقافة عربية إلا في الريف. أما مشروع الدولة الوليدة؛ أي ما بُنِيَ بسان لويس من مؤسسات وتم نقله منها إلى نواكشوط وما كان من إدارات في "المدن" والمراكز، وجُل ما تم وضع لبناته الأولى في موطنها الجديد فقد كان كله فرنسيا.
وفي مواجهة هذا المد التعريبي الجارف ذي الطابع التحرري الجنيني (الناصري) الذي لم يعد يهدد "مستقبل نفوذ فرنسا في موريتانيا وباقي مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية" - كما تنبأ الوالي موراك- فحسب؛ بل ويهدد أيضا امتيازات جل القابضين الجدد على أجهزة ومفاصل الدولة "المتفرنسة" الوليدة، سواء أكانوا زنوجا أم عربا، بادرت مجموعة من الأطر من مواليد الضفة بإعادة طرح مسألة منح ضمانات دستورية لسكان الضفة - أو "السود" كما سمتهم- بإلحاح، على جدول أعمال مؤتمر حزب الشعب المنعقد في نواكشوط في 1963. وقد أُعْلِنَت تلك الضمانات على الملأ يومئذ بوضوح وهي: إدخال مواد جديدة في الدستور تتعلق بشكل الدولة التي يطالبون بأن تكون فدرالية، وأن يكون نائب رئيس الجمهورية من الفئة التي لا ينتمي إليها الرئيس، وإضافة مثلث أحمر إلى العَلَم. وقد رأيت النص المتعلق بالضمانات يومها. وإليها أشار بيان التسعة عشر الصادر في يناير سنة 1966 والذي سنتحدث عنه لاحقا فقال: "ومما يشار إليه من جهة أخرى أنه بالتزامن مع الرغبة المعلنة من طرف البيظان في الحصول على ترسيم اللغة العربية، طالبت المجموعة السوداء بإلحاح بأن تعطى لها ضمانات ملموسة ونهائية ضد جميع أنواع الذوبان فيتم توزيع المسؤوليات الوطنية، وتتم مراجعة الدستور في اتجاه الفدرالية (مؤتمرا 1961 و1963) ولكن النظام السياسي القائم بعد أن كمم أفواه بعض الناطقين باسم السود باشر ترسيم اللغة العربية الذي مثل إجراءُ جعل العربية إجبارية في المرحلتين الأولى والثانية من التعليم خطوتَه الأولى؛ بينما تعمد كبت المطالب الأساسية للمجموعة السوداء".
وقد كان من دعاة الضمانات المتحمسين ـ حسبما ذكر يومئذ ـ السيدان الدكتور با ببكر ألفا، والأستاذ كان ألمان (رحمهما) الله. وفي صفهما بعض المسؤولين البيظان "الراديكاليين". وفي مواجهتهم يقف جل مسؤولي البيظان بزعامة رجل الدولة المحافظ أحمد ولد محمد صالح (حفظه الله). وفي الوسط يقف الرئيس المختار (رحمه الله) - بطبيعته الوسطية- محايدا مع الدولة والقانون، مطبقا قول الأمير أعمر ولد المختار لابنه محمد لحبيب حين حاول الإدلاء برأيه في نقاش البلاط للموقف من تحدي ولد عمير الكبير (رحمهم الله) لسلطة الأمير: "اسكت أنت شِيخ والشيخ ما ينعر" أي لا يكون طرفا.
ولكن تسرب الموضوع هذه المرة إلى الشارع الذي أصبح أكثر تسيسا وأوفر سكانا مما كان عليه سنة 1961 والحديث عنه على الملأ جعل تيارا واسعا من البيظان المتشيعين للغة العربية والقومية التقدمية يستنكر تلك المطالب أيما استنكار، ويرى فيها ميلا إلى الانفصال وتشبثا بالاستعمار ولغته، وكانت نواته المنظمة في البداية فئة من طلابنا بفرنسا أوفدت طالبا يدعى إسماعيل ولد أعمر (حفظه الله) بالمناسبة إلى نواكشوط، ثم توسعت حوله دائرة تلك الفئة لتشمل بعض صغار الموظفين، ويمتد نشاطها إلى إعداد المنشورات والتجمهر الغاضب آخر النهار في ورشة مباني البنك المركزي قبالة القصر الرئاسي حيث كان ينعقد المؤتمر في "خيمة" الاستقلال. ومن بين تلك المجموعة على ما أذكر (وكنت من بينها، وبسبب نشاطي فيها أُنهيت خدماتي في رئاسة الجمهورية؛ حيث كنت ملحقا صحفيا بديوان الرئيس) بالإضافة إلى الطالب إسماعيل ولد أعمر، الأستاذ عبد الله السالم ولد محمد نوح (رحمه الله) الذي كانت الاجتماعات تعقد في منزله بالحي أ، والسيد لمرابط ولد بابانا (رحمه الله) والسيد عبد الله ولد سيديا ولد أبنو (أطال الله بقاءه) والسيد يربه ولد اعلي بيبه (رحمه الله) الذي كان مديرا للأمن يومها.. وآخرون لم أعد أذكرهم. وقد انتهى نشاط تلك المجموعة بمصادرة أحد أعضائها - وهو مدير الأمن- لآلة الطباعة العربية الوحيدة التي تستخدمها، واختتام أعمال المؤتمر دون اتخاذ قرار في الموضوع برمته